
من منا لم يتابع بتوجس كبير ألسنة اللهب الهائلة التي اجتاحت غابات محافظة اللاذقية في سوريا. هذه المنطقة التي أنهكتها سنوات من الحرب والصراع، التهمت فيها النيران أكثر من 14 ألف هكتار من الغابات والأراضي الزراعية¹.
وفقاً لمدير الإطفاء في مدينة اللاذقية، تسببت الحرائق في تضرر نحو 1900 عائلة، بعد أن وجدت النيران في درجات الحرارة القياسية والجفاف الطويل والرياح العتية وقوداً مثالياً للتمدد والانتشار. وفي تصريح يعكس حجم الكارثة البيئية، وصف مدير الحراج في المحافظة، المشهد قائلاً “الحرائق تجاوزت مساحة مدينة دمشق”، ولم تترك النيران خلفها سوى الرماد، بعد أن التهمت بساتين الزيتون والغابات، ودفعت مئات السكان للنزوح، وألحقت أضراراً بالبنية التحتية الأساسية.² وفي ذات الوقت واجهت فرق الإطفاء تحديات إضافية نتيجة الوضع الأمني المعقد في المنطقة، حيث تنتشر مخلفات الحرب في بعض المناطق المحترقة³، مما جعل الوصول إلى بعض المواقع أمراً صعباً ومحفوفاً بالمخاطر.
ظاهرياً، قد تبدو هذه مجرد مأساة محلية، كنتيجة مؤلمة جمعت تداعيات تغير المناخ وأوزار الحرب في قدر واحد مشؤوم. لكن عند النظر بتمعن في خلفيات المشهد، تكشف حرائق اللاذقية عن قصة أعمق بكثير. إنها ليست فقط كارثة بيئية، بل مرآة عاكسة لعالمنا المضطرب؛ حيث تصطدم أزمات المناخ بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متجذرة، لتشكل عاصفة هوجاء من الدمار الشامل.

الانخفاض المخادع في حرائق العالم
للوهلة الأولى، قد يبدو أن الوضع يتحسن على مستوى العالم. فبيانات الأقمار الصناعية⁴ خلال العقدين الماضيين تُظهرُ تراجعاً في إجمالي المساحات المحروقة سنوياً. وقد يظن البعض أن هذا التراجع يدعو للارتياح أو حتى للاحتفال بانتصار بيئي هادئ، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً وخطورة.
الرقم الكلي الذي يشير إلى انخفاض المساحات المحروقة مضلل. فهو يعكس بشكل أساسي تراجعاً كبيراً في الحرائق التي كانت تندلع في الأراضي العشبية والسافانا، نتيجة توسّع النشاط الزراعي وتقليل الاعتماد على النيران عند تطهير الأراضي. غير أن هذا الانخفاض يُخفي خلفه اتجاهاً مقلقاً: حرائق الغابات الكثيفة، تلك التي تمتاز بشدتها وخطورتها، آخذة في الازدياد، سواء من حيث المساحة أو التكرار أو الأثر البيئي.
حرائق الغابات الضخمة في تصاعد مستمر
بين عامي 2001 و2023، شهد العالم ارتفاعاً حاداً في فقدان الغطاء الشجري نتيجة للحرائق، بلغ نحو 6 ملايين هكتار سنوياً، وفقاً لبياناتGlobal Forest Watch⁵. وللتقريب، فإن هذه المساحة تعادل تقريباً مساحة دولة كرواتيا.
اليوم، تساهم حرائق الغابات وحدها في ما يقارب ثلث إجمالي فقدان الغطاء الشجري العالمي، بعد أن كانت نسبتها لا تتجاوز 20% في عام 2001⁶. هذا يمثل تحوّلاً جذرياً في طبيعة الحرائق. فلم نعد نواجه فقط حرائق الأعشاب منخفضة الشدة، بل نشهد تزايداً في “الحرائق الضخمة” تلك التي تتميز بشدة تدميرها وانبعاثاتها العالية والتي تضرب غابات العالم الأكثر حيوية.
ويعزز هذا الاستنتاج، دراسة نُشرت في مجلة Nature عام 2023، أظهرت أن الحرائق الأشد تطرفاً قد تضاعفت في التكرار والشدة والحجم خلال العقدين الأخيرين⁷. وتتركز هذه الحرائق العنيفة في غابات غرب الولايات المتحدة، وفي الغابات الشمالية الممتدة عبر أمريكا الشمالية وروسيا، وهي ناتجة بشكل مباشر عن التغيرات المناخية التي تسبب بها النشاط البشري.

تغير المناخ: التهديد المتزايد بشكل كبير
التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC AR6) واضح وصريح: الأنشطة البشرية هي المسبب الرئيسي للاحتباس الحراري. بين عامي 2011 و 2020، وصلت درجات حرارة سطح الأرض إلى 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية (1850-1900)⁸. هذا الارتفاع الطفيف أدى بالفعل إلى “تغيرات واسعة النطاق وسريعة” في جميع أنحاء الكوكب.
الأهم من ذلك، أن العلاقة بين هذا الاحترار وحرائق الغابات ليست ثابتة، إنها تتزايد بشكل كبير. كل جزء إضافي من الدرجة المقياسية يؤدي إلى زيادات واضحة في تكرار وشدة موجات الحر والأمطار الغزيرة والجفاف، وفقاً لتقرير IPCC⁹.
موجات الحر، التي كانت تُعتبر نادرة وتحدث مرة واحدة فقط كل عقد، يُتوقع اليوم أن تصبح أكثر شيوعاً، بحيث تحدث أكثر من أربع مرات خلال العقد نفسه إذا ما ارتفعت درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية. أما إذا وصل الاحترار إلى درجتين مئويتين، فإن هذه الموجات قد تتكرر بمعدل يقارب ست مرات في كل عشرة أعوام¹⁰. هذا التصاعد في درجات الحرارة، والمصحوب بجفاف أكثر حدة، سيسهم بشكل مباشر في تفاقم خطر حرائق الغابات حول العالم، مما يجعلها أكثر شراسة وامتداداً واستمرارية.
تظهر دراسة نشرتها مجلة Nature Climate Change في 2022 أن موسم الحرائق نفسه يزداد طولاً، ليصبح تهديداً مستمراً بدلاً من كونه موسمياً. ففي أجزاء من غرب الولايات المتحدة والمكسيك والبرازيل وشرق إفريقيا، أصبحت مواسم الحرائق الآن أطول بأكثر من شهر مما كانت عليه في الثمانينيات¹¹ من القرن الماضي.
حلقة مفرغة: كيف تُسهم الحرائق في تسريع تغير المناخ
لا تنتهي القصة عند حدود تسبب تغير المناخ في إشعال الحرائق، بل تدخل في دوامة خطيرة، حيث يُغذي كل طرف الآخر في حلقة تغذية مفرغة.
الغابات، وخصوصاً تلك الشاسعة في المناطق الشمالية – تُعد من أكبر خزانات الكربون الطبيعية على الكوكب. لكن حين تحترق هذه الغابات، يتحرر الكربون المخزن فيها وينبعث إلى الغلاف الجوي على هيئة غازات دفيئة. هذا التسرب الكربوني يعزز من ظاهرة الاحتباس الحراري، ما يؤدي إلى خلق بيئة أكثر حرارة وجفافاً، وهي الظروف المثالية لاندلاع المزيد من الحرائق. وهكذا تستمر الدائرة: حرائق تُفاقم تغير المناخ، وتغير مناخ يُشعل المزيد من الحرائق.

وفقاً لتقرير Global Fire Emissions Database (GFED)، ارتفعت انبعاثات الكربون من حرائق الغابات بنسبة 60% بين عامي 2001 و 2023 ¹². على سبيل المثال، أطلقت حرائق الغابات الكندية القياسية في عام 2023 ما يقدر بـ 640 مليون طن متري من الكربون في الغلاف الجوي وفقاً لوكالة الفضاء الكندية¹³.
بالنسبة للمنطقة العربية، تشير دراسة نشرتها المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن المنطقة ترتفع درجة حرارتها بما يقرب من 1.5 مرة المعدل العالمي¹⁴، مما يخلق “بيئة قابلة للاشتعال” متزايدة الخطورة.
الخطر الخفي: تلوث المياه بعد انطفاء الحرائق
من أكثر العواقب خطورة واستدامة، بعد أن تخمد ألسنة اللهب ويغادر الدخان السماء، تبدأ أزمة أخرى في التسلل بصمت: هي تلوث المياه “الأزمة الخفية”، كما يسميها الباحثون. فقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة Water Research عام 2021 أن الجريان السطحي من المناطق المحروقة يحمل مزيجاً خطيراً من الرواسب والرماد والمعادن الثقيلة إلى الأنهار والخزانات. فعندما تشتعل النيران في المنازل والمركبات، لا تحترق الأخشاب والمعادن فقط، بل تُطلق أيضاً مواد كيميائية صناعية، بعضها مسرطن، تتسرب إلى مصادر مياه الشرب، مهددة صحة المجتمعات لسنوات قادمة.

دروس عالمية: كيف نتكيف مع عالم يشتعل
تحدي التعايش مع الحرائق ليس مقتصراً على سوريا فحسب؛ إنه واقع عالمي آخذ في الاتساع. فقد بات من الواضح أن النهج التقليدي في التعاطي مع الحرائق، من خلال التعامل مع كل حريق على حدى باعتباره
تهديداً محلياً يجب القضاء عليه فوراً، لم يعد مجدياً.
بل على العكس، هذا الأسلوب ساهم في تفاقم المشكلة، إذ أدى إلى تراكم كميات كبيرة من المواد القابلة للاشتعال في الغابات والمناطق الطبيعية، مما خلق بيئة مثالية لنشوء حرائق ضخمة وشديدة يصعب السيطرة عليها. فقد أصبح من الضروري تبني استراتيجيات جديدة للتكيف، تعتمد على الوقاية والإدارة الذكية للنظم البيئية بدلاً من الاكتفاء برد الفعل بعد اندلاع النيران.
دروس مستقاة من العالم: كيف تتطور الدول مكافحة الحرائق
في مواجهة تصاعد تهديدات حرائق الغابات، بدأت دول عديدة بإعادة التفكير في استراتيجياتها، مستخلصة دروساً من التجارب القاسية:
- التحول الاستباقي في البرتغال: بعد الحرائق الكارثية التي شهدتها البلاد عام 2017، والتي أودت بحياة 109 أشخاص، غيّرت البرتغال نهجها جذرياً. وبدلاً من التركيز فقط على إخماد النيران، انتقلت إلى استراتيجية وقائية شاملة. ووفقاً لتقرير صادر عن الوكالة الأوروبية للبيئة، بدأت البرتغال بإدارة فعالة للمحميات الطبيعية من خلال تقليم وتخفيف كثافة الغابات، إلى جانب اعتماد تقنيات “الحرق المسيطر عليه” لتقليل كمية المواد القابلة للاشتعال¹⁶.